أفرزت جائحة كورونا جملة من الإكراهات والتحولات على مختلف المستويات، تُطرح في سياقها أسئلة ملحة عن التوجهات والخيارات الحالية والمستقبلية التي تفرض نفسها بعد زوال هذه الجائحة.
يجيب أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة التابعة لجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، الطيب بوتبقالت، عن أربعة أسئلة عن خيار العمل عن بعد، ومزايا وسلبيات هذا النمط من العمل، واحتمال استمرارية هذه التجربة بعد انتهاء الأزمة، ومدى استعداد المواطن لهذا النوع من العمل.
1- فرضت جائحة فيروس كورونا عددا من التحولات، منها خيار العمل عن بعد. كيف تقيمون هذه التجربة حتى الآن ؟
كثيرة هي التحولات التي فرضتها جائحة كورونا، منها ما هو معروف بسبب تأثيراتها المباغتة ونتائجها المباشرة التي أضحت خلال أسابيع قليلة واقعا خطيرا وملموسا في مجالات حيوية متعددة وعلى أكثر من صعيد، ومنها ما هو مجهول إلى حد الساعة، بحيث تعذر على الخبراء الاهتداء إلى رسم خارطة طريق دقيقة لما يمكن أن يكشف عنه الزمن على المدى المتوسط والمدى البعيد من تداعيات لهذه الجائحة التي أخذت العالم على حين غرة واحتجزت كافة شعوب المعمورة رهائن تحت رحمة موجاتها العابرة للقارات.
ومن هذه التحولات خيار العمل عن بعد الذي ساهمت هذه الجائحة بشكل ضاغط في تسريع وتيرته وتعميمه، أكثر من كونه انعكاسا أو نتاجا لها. فقد انطلق فعلا نظام العمل عن بعد جزئيا بالمغرب منذ بضع سنوات في كثير من مؤسسات القطاعين العام والخاص، ولكن بشكل بطيء ومحتشم، وجاءت كورونا لتضخ فيه دفعة قوية لم تكن في الحسبان.
أما تقييم هذه التجربة حتى الآن فإنه يحتاج إلى مسافة زمنية أطول من أجل توفير ما يكفي من المعطيات التي على ضوئها يتم إنجاز التقييم بمنهجية علمية ذات مصداقية. وفي جميع الأحوال، فإن الخلاصة الأولى التي يمكن تسجيلها هي أن نظام العمل عن بعد أصبح يفرض نفسه في المملكة كضرورة من الضروريات الملحة التي من الواجب تبنيها قصد مواكبة عصر تكنولوجيا الإعلام والاتصال والانخراط المصيري في مجتمع المعلومات والذكاء الاصطناعي. وليس من المبالغة التأكيد على أن كل مجتمع تخلف عن هذا الركب سيؤدي ثمنا حضاريا.
2- ما مزايا وسلبيات هذا النمط من العمل في تصوركم ؟
هذا النمط من العمل له مزايا وسلبيات كثيرة، قد لا يخطر بعضها على بالنا في الزمن الراهن لأننا لا نتوفر على تراكمات كمية وكيفية تساعدنا على رصدها. ومع ذلك فإن هناك اعتقادا سائدا مفاده أن هذا النمط من العمل ينطبق عليه منطق “رابح-رابح” للأطراف المعنية، وذلك بالنظر إلى ما يوفره من مرونة وحرية في إبرام عقود الشغل وفقا لمبدأ العرض والطلب بخلفيته الليبرالية، من جهة، وما يتيحه من توازن بين الحياة المهنية والحياة الخاصة للموظف أو المستخدم، من جهة ثانية، ناهيك عن ربح الوقت وتقليص نفقات التنقل والأخطار المحتملة من جراء التوتر والإجهاد نتيجة للظروف والحيثيات ذات الصلة الوثيقة بالعمل الحضوري.
يضاف إلى هذه المزايا تلافي هجرة العمالة وتعويضها بالعمل عن بعد لفائدة كافة الأطراف المتدخلة في سوق الشغل. كما أن العمل عن بعد يحفز الأطراف المعنية على الانخراط الفعلي في ولوج مجتمع المعرفة المعلوماتية وما يقتضيه ذلك من تكوين وتكوين مستمر باعتباره شرطا أساسيا في إنجاح أي مشروع تنموي ذي أهمية، وبالتالي الانصهار في سياق التطور الحضاري المعولم بشكل غير مسبوق في التاريخ البشري.
غير أن هناك سلبيات لهذا النمط من العمل يجب أخذها بعين الاعتبار، منها على سبيل المثال لا الحصر إشكالات ما يسمى ب”الأمن السيبراني”، و عدم الاستقرار النسبي في وظيفة معينة أو عمل دائم، وتذويب روح فريق العمل في خوارزميات وتطبيقات إلكترونية عديمة الشحنة الإنسانية الحية، مما ينتج عنه عزلة اجتماعية نظرا لغياب التواصل الشخصي التفاعلي في بيئة العمل الحقيقية وليس في الأجواء الضبابية للواقع الافتراضي.
وفضلا عن ذلك، فإن العمل عن بعد من المنزل قد يعزز الدفء العائلي، غير أنه قد يؤدي إلى عكس ذلك تحت وطأة الضغط المباشر للقيام بالعمل في عين المكان/المنزل. وفي كلتا الحالتين يبدو جليا أن نمط العمل عن بعد أشبه بسيف ذي حدين، شر وخير في آن واحد، وجب استخدامه بكفاءة وفعالية ومسؤولية.
3- هل يمكن أن نستشرف استمرارية هذه التجربة بعد انتهاء هذه الأزمة ؟ وما الذي يلزم لذلك قانونيا وإداريا ؟
خلافا لكل التوقعات يمكن أن ننظر إلى جائحة كورونا من زاوية إيجابية غير مقصودة لذاتها، وهكذا ف”رب ضارة نافعة وفي كل نقمة نعمة”. فبفضل هذه الجائحة انخرطنا بشكل لا رجعة فيه في عهد التكنولوجيا المتطورة التي ستتمخض عن تحولات جوهرية ومصيرية في شتى المجالات. ستستمر إذن هذه التجربة بكل تأكيد، إنها حتمية حضارية بلا شك.
فقد تجندت كل القطاعات الوزارية المغربية وكبريات مؤسسات القطاع الخاص لمواجهة هذه الجائحة، وتم اعتماد نظام العمل عن بعد جزئيا أو كليا على غرار ما قامت به دول عديدة عبر العالم. وفي هذا الإطار، أصدرت وزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة، في شهر أبريل الماضي، دليلا يحمل عنوان : “العمل عن بعد بالإدارات العمومية”، تضمن مجال تطبيق العمل عن بعد، وضوابطه، ومعايير اختيار الوظائف الملائمة، والتزامات الإدارة والموظف، وآليات التنفيذ.
ومن المهم الوقوف عند مفهوم “العمل عن بعد” الوارد في هذا الدليل الذي يؤكد على أنه “يتأسس مفهوم نظام العمل عن بعد على منح الموظف أو المستخدم إمكانية تأدية واجباته الوظيفية سواء بشكل جزئي أو بشكل كامل، من مواقع مختلفة وبعيدة عن مقرات عملهم المعتادة، وهو بذلك يعتبر أحد خيارات العمل البديلة التي تضمن استمرارية المرفق العام من خلال تأدية الأعمال والمهام المرتبطة بتقديم الخدمات العمومية، ويمكن اعتماده من طرف الإدارة في الحالات التي تتطلب تأدية الأعمال وإنجاز المهام من خارج مقر العمل عوضا عن التواجد كليا أو جزئيا في مقرات العمل، دون أن يعتبر ذلك نوعا من أنواع الإجازات”.
وبالتالي فإن استمرار هذه التجربة لم يعد مسألة استشراف بل أصبح واقعا يتطور باضطراد.
4- هل المواطن مستعد وناضج بما يكفي لهذا النوع من العمل ؟
لقد برهن الإنسان المغربي على امتداد الحقب التاريخية المتتالية للبلاد عن قدرته على التكيف مع أحداث ومتطلبات عصره بحلوها ومرها، وجعلت منه مقومات هويته الثقافية والحضارية إنسانا ناضجا بما فيه الكفاية للتأقلم مع ما تمليه عليه ظروف وإكراهات تطور المجتمع المعاصر، ولكن شريطة تحقيق مبدأين يتصدران دستور المملكة : “ربط المسؤولية بالمحاسبة” و “الحكامة الجيدة”.